أخالف الرأي القائل بأن المسرح هو أبو الفنون. الفيلم يستحق هذا اللقب وأكثر لقدرته الطبيعية على توظيف العناصر التكوينية للفنون البصرية كافة بما في الرسم من خطوط وأشكال وكتل وأحجام وتراكيب لونية وتوافق وتضاد بين الظل والضوء وتصويره الحي الفوتوغرافي للناس والأماكن، وتناول الأبعاد الثلاثة للأشياء كما في النحت، وحركة البانتومايم التعبيرية عن الصمت، واستخدام اللفظ في تناسق موزون مع الفكرة والحدث والموقف بمهارة الإيقاعات المركبة للشعر والموسيقى، معبراً بالكلمة والصورة عن التصوير الذهني والاستعارة والرمز. شأنه شأن الرواية والرمز والقصة ضاغطاً الزمان والمكان أو موقفاً حركتهما أو يتحكم فيها بالحركة للأمام وللخلف بحرية مطلقة.
يتجاوز الفيلم بقية الفنون ليس فقط بقدرته على دمجها جميعاً في كل واحد متناولاً من كل منها الغرض الذي يخدم موضوعه؛ بل بتحقيق التفاعل المستمر بين المنظر والصوت والحركة والكلمة مرتحلاً فوق حدود الأوضاع الساكنة ثنائية البعد للوحة واللقطة الفوتوغرافية واستيعابه لعدة وجهات نظر في آن واحد من خلال تدفق الحركة ونشوء الصراع وتعقيده وحله دون التقيُّد بإيقاع السرد الروائي أو مراحل الانتقال المسرحية؛ بل إن قدرة السينما على القطع المفاجئ وألاعيب المونتاج السحرية تمنح الفيلم السيطرة الكاملة على توجيه المضامين والأفكار أو تركها غامضة دون الالتزام بتعبير مباشر، ودون تهديد لوحدة الحكاية؛ فضلاً عن تجسيده للشخصيات والأحوال التي تحمل المعاني والأغراض، بينما يسقط الروائي غير المتمكن في مشكلة أن تتحول شخصياته إلى رموز مجردة تجريدية ترهق عقل القارئ بمحاولات الترجمة والتأويل. وعلى حد تعبير (أرنست لندجرين)؛ من المستحيل تصور أي شيء تراه العين أو تسمعه الأذن، سواء في الواقع أو الخيال، لا يمكن أن يعرض في مجال الفيلم. من القطبين حتى خط الاستواء، ومن الوادي العظيم إلى أدق شرخ في قطعة من الصلب، ومن صفير رصاصة مارقة إلى النمو البطيء لزهرة، ومن التماعة فكر عبر وجه جامد تقريباً إلى تخريفات الهوس من مجنون، ولا توجد نقطة في المكان، ولا درجة من ضخامة الحجم أو سرعة الحركة يحيط بها علم الإنسان ليست في متناول الفيلم. وفي الفيلم تتحقق نظرية النسبية بشكل جلي؛ فإنه قادر على أن يجعل بضع ثوان تبدو كأنها ساعات ونحن نترقب النطق بحكم الإعدام أو ضغط المجرم عن الزناد، أو يضغط قرناً من الزمان في دقائق كما في أفلام الأجيال؛ كما يمكنه التركيز على المتع الحسية السطحية وخلق متعة بصرية دون تفلسف، أو يغوص في عمق حقائق كونية معقدة ومستحيلة الكشف؛ كما أنه أقرب الفنون للواقع فالفن التشكيلي يصبغ الحياة بألوان زاهية أكثر أو كئيبة أكثر لكنها في سبيل إبراز جماليات ميتة، لا تصلح إلا للتأمل العقيم؛ لكن الفيلم يقدم لون الجلد واللحم والبشرة ولون ما نرتديه ولون الحدائق ولن الحدائق والأثاث الفعلي، ويقدم هذه التفصيلات على طبيعتها، الساكن منها في سكونه والمتحرك يتحرك تبعاً لدوافعه الخاصة محركاً أوتار الشعور كافة من أرق المشاعر وأكثرها رهافة إلى أقسى النوايا وأفظعها، والآن تستطيع من خلال الأفلام ثلاثية الأبعاد أن تقترب من وجه الممثل أو أن تقفز من مقعدك لأن القطار يخترق الشاشة نحوك! وقد وصف ألدوس هكسلي في (عالم جديد شجاع) بسينما المستقبل بأنها سينما المحسوسات، حيث سنشم العطر، ونشعر بشعر سجادة من فرو الدب في مشهد حب.
امتيازات الفيلم هذه جميعها هي ذاتها ما يمثل صعوبات التحليل السينمائي. يمكنك الجلوس بالساعات أمام لوحة أو قصيدة لمدحها أو ذمها وتنفيذ عناصرها بدقة، ولكن ما العمل في فيلم متواصل مستمر، لا يمكن تجميد سريانه في الزمان والمكان، وكيف تحدد انفعالك الذاتي في مشهد ما، وتواجه المشهد الجديد بشكل موضوعي بينما عليك تحليل دقائق الفيلم تفصيلياً بتجريد نقدي علمي دون أن تستغرق بكليتك في التجربة الواقعية للفيلم؛ طبعاً صار الموضوع أيسر قليلاً مع اختراع مسجلات الفيديو، وأكثر يسراً مع اسطوانات الدي في دي التي يمكنك توقيف الفيلم في أية لحظة من خلال خيارات عدة، مع التنازل عم جماليات التدفق المتصل بالتتابع الشعوري والعقلي. يقول آلان كاسبيار عن تأثير الفنون ببعضها: في حين أن هايتك النظريات كانت على الجملة مفيدة إلا أنها اتجهت إلى تناول الفيلم في ضوء الفنون الأخرى. فأولئك الذين أقبلوا على دراسة الفيلم مزودين بخلفية في الدراما يؤكدون عمومية عناصره مع المسرح من حيث التمثيل والإخراج والحوار. ويرى مؤرخو الفن صورة الفيلم غالباً بأسلوب التوازن والتناسب والإيقاع والحجم ونسيج التراكيب، ويطبق نقاد الأدب على الأفلام مناهج التفسير اللغوية والرمزية التي يستخدمونها في تحليل الشعر والرواية. خرج من هذه النظرية بالتفكير في السينما على أنها ليست في كل الأحوال الفن الحاضن لطرائق فنية أخرى. باعتبارها كفن له خصوصيته وأدواته المنفردة حتى وإن فصلنا أحد أشكال التعبير من الداخل للتشبيه مع وسائل اتصال فنية أخرى لأن الخواص الأساسية لوسائل الاتصال هذه قد جرى دمجها ونسجها بشكل كامل لا يتجزأ داخل بنيتها الثرية. يمكنك أن تمسك بقلمك وتكتب أي كلام .. كلمتين أو ثلاثة في كل سطر وتقنعني بأنها قصيدة لا يفهمها أمثالي ممن لا يعنون بالشعر ولا يفهمون في علم العروض .. كذلك تستطيع ابتياع علبة ألوان وفرشاة و(تشخبط) على الحائط وحتماً سوف تجد من يصفق للجدارية الرائعة مجاملة أو خشية أن يتهم بالجهل الفني .. الأمر أصعب قليلاً في الإبداع الموسيقي، لكن الذين يعزفون جيداً ويحفظون جملاً موسيقية بديعة غير معروفة قادرون على تركيب لحن أو معزوفة تبدو وكأنها من بنات خيالهم.
السينما أعقد من كل هذا بكثير!
نحن نتحدث هنا عن صناعة كاملة تتحكم فيها عوامل لا حصر لها .. رؤية المؤلف وكيف يتخيلها على الورق .. الصورة التي يراها المخرج من السيناريو المكتوب .. كيف يؤمن كافة أفراد فريق التمثيل بكل جزء في النسيج الكلي للمشهد .. كيف يتعاون الماكياج والتصوير والديكور في خدمة وجهة نظر المخرج وفكرة المؤلف .. ماذا لو اعتذر الممثل؟ .. ماذا لو توعكت البطلة؟ ماذا لو بدأ الإنتاج يزمجر؟! يجب أن نؤمن بهذه الكيفية المرنة المقابلة للتحريك للفن السينمائي، ولا ننسى أن كلمة سينما مشتقة أصلاً من أصل يوناني يعني الحركة. ولا نغفل ما كتبه القائد السينمائي الفرنسي مارسيل مارتان في مؤلفة المعروف (اللغة السينمائية): إن الصورة السينمائية في جوهرها حقيقة متحركة، وأن عرض الحركة هو السبب في وجود السينما وهي أهم ما تتميز به وأنها التعبير الأساسي عن عبقرية هذا الفن الجديد، يوافقه الرأي هوجر منستربرج بقوله أن الخاصية الحقيقية للسينما هي تحريك الأفكار في العقل، أما جان إيبشتين فيري في كتابه (سينما الشيطان) أن الحركة في الواقع هي القيمة الجمالية الأولى للصور التي تقدم الشاشة بعرضها، نفس ما أصر عليه ألاراديس نيكول في كتابه (الفيلم والمسرح) بأنه رغم ما هناك من اختلافات بين السينما والمسرح، ولكن بغض النظر عن جميع هذه الاختلافات فإنه يبقى في النهاية عامل أساسي وجوهري لكليهما وهو (الحركة) مهما كان شكل هذه الحركة وحجمها عند كل منهما إلا أنها هي جوهر الدراما في هذين النوعين من الفنون، وأن خشبة المسرح تحتضن في داخلها أكثر مما يستطيع كتاب الدراما بمفردهم أن يفعلوه وذلك عن طريق الإيماءات الصامتة والانطباعات المسرحية للباليه التي تأخذ مكانها إلى جوار التراجيديا والكوميديا داخل دار المسرح، وأن نجاح المسرحية لا يتوقف فقط على الكلمات المنطوقة ولكن بالإضافة إلى الحركة الجسمانية المصاحبة مع الحوار والمتشابكة معه عندما ينطقه عدد من الشخصيات المختلفة على خشبة المسرح فتعلي هذه الحركة من قيمة الحوار، وإذا كان هذا ضرورياً للمسرح فإنه في نفس الوقت ضروري للسينما. والأفلام نفسها معروفة بأنها
(الصور المتحركة) وبهذا الاصطلاح الشائع فإن الناس الذين تعتمد عليهم السينما تماماً قد أشاروا إلى هذا العامل الذي يبدو لهم على درجة كبيرة من الأهمية. فإن حركة الأشكال على شاشة السينما التي تجذب انتباه المتفرجين وليست الأشكال نفسها. وهكذا تنجح الأفلام التي يتحكم في كافة عناصرها شخص واحد حسب نصيحة الخبراء: فلتؤمن أن إلهامك سوف يضفي المعنى على كل ما تحاول القيام به، وابق فقط في اللحظة، يجب أن تثق في نفسك. لا تحاول أن تجيب على كل الأسئلة دفعة واحدة. تذكر عند نقطة معينة أن المسألة ليست ما هو صحيح وما هو خطأ، إنها مسألة أن تقوم بالفعل وفحص اللحظة. هكذا ينطق المخرج بأفكار صوت عالٍ كما نفعل في المونولوج الداخلي. أحياناً يجد نفسه متعرقلاً داخل رأسه فيجرب (البرطمة) أو الغمغمة بكلام غامض. أحياناً يتبدل بين يديه النص الصريح المفهوم. ينظر إلى النص ويقل أي سطر تقع عليه عيناه. لا يهتم بترتيب السطور مؤمناً أنها سوف تكون في متناوله بالترتيب فيما بعد. يتحرك جيئة وذهاباً بين التنفس والتنهد والنص والبرطمة والمونولوج الداخلي والاسترخاء الذهني حتى يتحول النص إلى خلية من عملية الاستكشاف فيصبح البطل قرين المخرج، فكما يعود الابن الضال في فيلم شاهين راكضاً أمام قرص الشمس يعود البطل تريستان في (أساطير الخريف) تضيئه الشمس من الخلف. ذلك المشهد الغريب – الأسطوري لحدث عادي تفعله كل يوم – العودة إلى المنزل – يؤسس بسهولة القصة التي سوف تحدث – أو المأساة غالباً – ويوضح تماماً علاقة كل شخص بعودة علي/ تريستان. أين كانت هذه اللحظة التنويرية في النص؟ الواقع أن توجيه وتوقيت هذا المشهد من عمل المخرج ومدير التصوير، لقد ظهرت صورة جديدة من تقريب ذات الأجزاء لنفس اللغز، لقد خلقا بناء اللقطات لتأسيس القصة والإيقاع والإطار الزمني وتفاعل الكل مع الواحد. ومن خلال ذلك جميعاً تدور أحداث الفيلم، فكل الممثلين يبدون في ذات الموقع داخل الإطار الزمني الذي لا يتجاوز بضع دقائق وكل الممثلين يتقمصون ذات الرجل وهو قادم من نفس المكان، لكن في الحقيقة عندما كان يتم تصوير هذا المشهد، فإن كل مجموعة من الممثلين كانت تقف في مكان ما وحدها أمام طاقم التصوير، الذي كان يخبرهم إلى أين ينظرون ومتى ينظرون، ومتى يتحركون أو يندهشون أو يحبطون. لم تكن العائلة تترقب علي ولم تكن أسرة تريستان ترى رجلاً يركب جواداً، والأرجح أن الأولى كانت تلعب الورق في الأستوديو، والثانية كانت تنظر إلى علامة حمراء موضوعة فوق حامل إضاءة لأن ذلك هو خط النظر المفترض أن ينظر في اتجاهه الممثل في اتجاه المنزل فيشترك الكل تحت توجيهات المخرج لصنع شيء من لا شيء، لخلق مشهد قابل للتصديق.
دور المونتاج في الفيلم السينمائي هو دور ناقلات الإشارات في الجهاز العصبي المركزي بجسم الإنسان، والمونتاج عادة ما يعبر عن كلمة خيالية تدل على التوليف أو عملية القطع، لكن بعض المخرجين أعطوا المونتاج بعداً صوفياً بأن ربطوه بالعمليات الفلسفية لجدلية الحوار والأحداث على الشاشة، فحسب مفهوم آيزنشتاين لصناعة الأفلام، تتساوى الصور مع الأفكار، كما أن تصادم صورتين متضادتين ديناميكياً يخلق صورة جديدة. أن مواضيع قليلة تسمح بالقطع السريع المستمر كما في فيلم (إسكندرية ليه) ليوسف شاهين لأنه حفل بشخصيات وأحداث إسكندرية الكوزموبوليتانية، وكما في فيلم (العشرة أيام التي هزت العالم) وأفلام مثل (مسيرة العرس) و(الطفيليون) و(اللاهث). ويساهم المونتاج في تحسين الانطباع الذي يتركه الفيلم، فمثلاً في أفلام مثل (ناهبو ميريل) و(أطلقت النار على جيسي جيمس) السخيفة في مضمونها، يجعلها المونتاج تحمل صوراً مثيرة بالقطع السريع الذي يبرز عنفوان الأبطال. إن أفكار هذه الأفلام مسطحة وشديدة البساطة دون شك بحيث يصعب أن نخضعها لأي تحليل جاد، ولكن القوة الفنية التي يهبها المونتاج المحترف للشريط هي التي تضفي جاذبية معينة. يعتبر فيلم (الملاك الأزرق) أفضل أفلام سيترنبرج لهذا السبب، المونتاج الجيد في هذا الفيلم غير المميز خدع النقاد أنفسهم حتى أن الناقد الاجتماعي سيجفريد كراكور أفراد له ثلاث صفحات من كتابه (من كاليجاري إلى هتلر) لنقده حيث يلخص الحبكة (فقرة واحدة) ويعزو نجاح الفيلم إلى مارلين ديتريش باعتبار أن هذا المخرج قام بتجسيد جديد للجنس، كما أ، هذا الفيلم عبر عن السادية بصورة جلية، ثم فإن القطع السريع أداه جيدة لإبراز الإنذار في الفيلم، فجعلت شخصيات الفيلم تسبق، وتتوقع ما سيحدث فعلاً في الحياة الواقعية، بعد سنوات يولد أولاد يصبحوا من شباب هتلر، وأداة صياح الديك هي إسهام متواضع يمثل مجموعة من الأجهزة التي استخدمت في معسكرات الاعتقال النازية. الطريقة الشيقة لمعالجة المونتاج لشريط الفيلم خلقت فيه فيلماً جاداً! ولذلك فإن أفضل مونتاج هو من يستطيع تشبيك قطع الفسيفساء الفيلمية بمهارة لتلقي الضوء على مساحات كاملة من الفن السينمائي لم يمكنك أن تراه من قبل، يتضح هذا في عرض مشاعر باطنية تشتمل على طبيعة تأملية لا يسهل أن ينطوي عليها السيناريو أو الحوار في السياق المعتاد لعرض الصور، كما رأينا في فيلم شارلي شابلن (الديكتاتور العظيم) أن الرجل العادي – الذي اتخذ صورة الآلهة من قبل، يضم بين جوانبه لا صورة الصعلوك المحبب إلى النفس فحسب، بل وصورة (هينكل) المتعطش إلى القوة أيضاً، وبجانب الطبيعة النفسية، فإن المونتاج اهتم بتطبيق بالغ الفجاجة للإسقاطات الفرويدية. فمثلاً، البالونة التي يرقص معها (هينكل) في (الديكتاتور العظيم) هي (ثدي الأم)، والآلة التي يحتبس فيها الصعلوك في (الأزمنة الحديثة) هي (رحم)، وكما نرى يخلق المونتاج المحترف موقف التحليل النفسي وسط فراغ تاريخي واجتماعي، أن القطع الهادف في حركات التمثيل الصامت (البانتومايم) التي يقدم بها شابلن ترتبط بحلم الرضيع وهو على ثدي أمه، هذا الحلم الذي تقطعه كلمة الأب، وصوته، يظهر المونتاج هنا حلم شارلي بالسعادة، وهو حلم لا تتخلله الكلمات نهائياً، يمكن أن نربطه في الذهن بحركة الحياة التي تنطلق في سيرها دون كلمات، وحين يحتسي شابلن الشاي الذي تقدمه له سيدة تمثل أمه في فيلم (الأزمنة الحديثة) فإن حركات معدته مسموعة على شريط الصوت لتمثل حدثاً جنسياً، وهكذا الحال مع كافة العلاقات النفسية، وكل ما يترتب عليها، بما ذلك الإشباع اللاشعوري لرجل يعاني عقدة أوديب، فيفصح ترتيب الصورة مع السيناريو عن الصراع الداخلي دون كلمات. إذن فالمونتاج يهتم بدرجة كبيرة بالمشاكل الجمالية والمسائل الحرفية ليقدم عملاً فنياً متكاملاً، فحين يجري (بيج جيم) المتضور جوعاً وراء البطل شاهراً سكينة في فيلم (الاندفاع وراء الذهب)، فإن الحركة تمثل خوف الطفل من الأب الذي يريد التهامه. كما ينطوي المونتاج الهادف على مخاطرة، إذ أن التقنيات المتاحة للمونتير أقل بطبيعة الحال عن الإمكانيات الراصدة من حواس سمعية وبصرية للناقد والمشاهد. بعبارة أخرى يمكن القول إن جهداً كبيراً يبذله المونتير ليحظى على إعجاب محدود، كمن يرصع خاتماً بقطع الألماس الرقيق ولا يبدو الناتج سوى جوهرة لامعة في عين من يُقبل الأصابع التي ترتدي الخاتم. المونتاج ليس مادة لاصقة ولا دبابيس لأوراق متتالية الهدف، لكنه رابط كلي وحضن فني للعمل من بدايته إلى نهايته وهو موجود في كل التفاصيل، كما قرأنا في مقال الناقد السينمائي الكبير تايلر في مقال له بعنوان (ثلاثة وجوه للفيلم) أننا نستطيع فهم السينما إذا نظرنا إليها من ثلث نواح، فالناحية الأولى ترتبط بالفن والثانية بالحلم والثالثة بالعبادة، والمونتاج يجمع الثلاثة نواح كما يجعلنا نستطيع أن نفرق بينهم وتحليل كل جانب بشكل منفصل، وطالما أن معظم الأفلام التي تناولها بالنقد يفترض أنها قصص خيالية، وبالتالي فهي (فن)، فإن الحلم والعبادة لا يمكن أن يبعدا تماماً عن الفن؛ فالمونتاج يخلق رابطة عضوية تجمع بينهم، ومن ثم فالتقسيمات التي في الفيلم تمثل مواضع توكيد لا تصنيفات، وجهات نظر لا تفريعات نهائية. (منتجة) الفيلم كما نتأمل نحن حياتنا في شريط متصل فيصبح للحوادث الفردية معنى شامل، بذلك نتذكر الدور الخطير للفن الذي يمثل القدر في مواجهة الصدفة، والشكل في مواجهة اللا شكل، وأن الفيلم يبتكر – ليس في الميدان الذي ينفرد به فحسب – ولكن أيضاً في مجال القانون الشكلي الذي يتقاسمه مع الرسم بالألوان، فمع وجود عدة خيارات أمام المونتير لترتيب اللقطات مع شريط الموسيقى والكلام وروح الفيلم ورسالته تتجلى المهمة الثقيلة التي يتفرد بها، وتظهر العلاقة بين البنية ووجهة النظر والموضوع في الفيلم الجيد، كما نرى فيه لوحة ذات صورة متعددة ترسم خطوط جاذبة، لأن السينما فن مرتبط بالزمان، والتصوير فن مرتبط بالمكان، فتوحي الصورة المتحركة بمستقبلية ديناميكية؛ بما يعني استبدال الصورة المرئية بحركة كاملة (أو مشهد إذا أردنا تصوير حركة واحدة) وكذلك استبدال عدة لقطات متتالية بلقطة واحدة. تتحرك الكاميرا عدة مرات لتلتقط نفس المنظر الذي لا يتغير من الناحية النظرية. وإذا كان المنظر يختلف في كل مرة، فيرجع إلى أن الكاميرا تلتقط صورة لشخص مختلف في كل مرة، لا تختلف تفصيلة الصورة بسبب الزاوية المرئية (لا ترمي الكاميرا أبداً إلى أن تحل محل الصورة الذاتية)، بل بسبب لعبة المونتير النفسية. ويعالج المخرج وأصحاب النظريات المستقبلية الشكل ذا الأبعاد المتعددة باعتبارها حقيقة تشكيلية تختلف عن الشكل الأحادي. كما تكتشف اللوحة أبعاد مختلفة لنفس الشخص، يقدم المونتاج أبعاداً مختلفة لنفس الحدث، كما يصور الناس مثلما يرون أنفسهم ومثلما يراهم الآخرون. سوف تستخدم عدة أدوات للقياس فضلاً عن التنقل بين المحور الموضوعي والتركيب المادي، فمن الناحية الإحصائية نجد أنه عمل غير دقيق بالمرة، إلا إذا نظرنا إلى كل من الفيلم وتركيبة على أنهما أسلوب حياة واحد متناسق ثم يصبح الجدل تجريبياً صرفاً، وهو في الواقع ليس جدلاً أو نقداً ولكن دعوة للمشاركة. الإمكانية التي تضمرها القدرة على مشاركة أصحاب الفيلم في إعادة (منتجته) ينطبق عليها ما قاله (سيمون) وهو يختتم عرض فيلم (الجاسوس الذي دخل من الأصقاع الباردة) بأن الفن هو الشيء الذي يتحسن كلما أعدنا تجربته، واللا- فن هو الشيء الذي نستمتع به مرة واحدة فقط، وعليه ففن المونتاج بمرونته لا يمنع الفيلم من أن يحظى بمكانه فنية كاملة. تعجز الأجزاء الرائعة التي يتكون منها الفيلم عن بناء وحدة متكاملة تفوق في عظمتها كل هذه الأجزاء مجتمعة، الأمثلة على ذلك نراها في أفلام مثل (الطيور)، الذي من وجهة نظر فنية بحتة يبدو مخيباً للآمال عند مشاهدته للمرة الأولى، ولكن الحال يتبدل بعد مشاهدته عدة مرات، وسوف تعرف- بنفس وجهة النظر- أنه يصبح من أعظم إنجازات هيتشكوك، وفيلم (غرفة الموسيقى) الحافل بالمساوئ، لكنك بعد مشاهدته للمرة الثانية سوف تجد أنك لن تنساه أبداً، وأن القلق الذي ينتابك بسبب أخطاؤه أمر لا أهمية له! وتركيب لقطات فيلم (وراء وادي العرائس) الذي يحمل بصمة إباحية واضحة، إنه فيلم إباحي حقيقي، يحتوي على جنس وجماع من أوله إلى أخره لكنه يقدم ويصور بمونتاج محترف حتى يبدو وكأنه لعبة غير معروفة من ألعاب الماهونج. المونتاج أبدع في إظهار التسارع المطلوب لأحداث
(المواطن كين)، هذا الفيلم اكتسب أتباعاً كثيرين بفضل مونتاجه الخلاب الذي أضفى عليه شخصية قوية انعكست على تفاصيله، ووضع طابع من الجدية على القصة التي جذبت الانتباه والمناقشة لكل من أراد مناقشتها، لكن لسوء الحظ أن ما يود معظم النقاد مناقشته ليس (فن) السينما من خلال عملية المونتاج بل أنهم يهتمون أكثر بالعناصر المادية لا بالكيفية التي تم توليف الشكل بها، بينما يشكو معظم النقاد للأفلام من أن حملهم ثقيل لأن هذا الوسيط الفني (غير نقي)، إذ أنه، على ما هو عليه، يتكون من صورة متحركة وموسيقى وحوار ورقص، ولن يكون هناك جهداً ووقت لمناقشة دور المونتاج في إبداع أو قصور المعايير الجمالية للفيلم، وبعبارة أخرى، يمكن القول أنه في الوقت الذي يشتد فيه جدل النقاد حول تعقد هذه الأداة الفنية، وهي عبارة صاغها (ساريس) في كتابه (الفيلم)، إذ أن هذه الأداة الفنية لا تحتاج سوى رجل على قدر كبير من العلم حتى يحيط بجميع جوانبها، وهي قضية فلسفية يندر أن يتعرض لها النقد السينمائي لأن جماليات كل الفنون في تغير مستمر ولكن الأخرى، لتطوير نظرية نقدية مقارنة تشمل دراسة عميقة لدور المونتاج، ومن أسباب ذلك أن الفيلم ظهر في عهد اضطرابات اجتماعية ودينية وسياسية شديدة، وارتبطت النواحي التركيبية والجمالية بهذا العهد ارتباطاً وثيقاً. وعلى هذا الأساس يقرر (كاوفمان) أن الفيلم فن له أساس شعبي فهو ينتج من أجل مجموعة من الناس، أي المشاهدين وليس الأفراد، يتبع هذا التفريق البعيد عن الوضوح بعض هراء الجوهرية (وهي نظرية تقدم الماهية أو الجوهر على الوجود (نقيض الوجودية)) . إن الفيلم (عربة السفر) من رجل صناعته الترفيه عن الناس، أما فيلم (المواطن كين) فمن صنع فنان سينمائي، ولكن (فورد) ليس مخرجاً روتينياً وفيلم (عربة السفر) أكثر من مجرد ترفيه خالص، لذا فإن لدينا هنا مقارنة بين مونتاج فيلم وآخر على نفس المستوى في بقية العناصر تقريباً تضاهي في الشكل الروائي تلك المقارنة بين رواية (لورد جيم) ورواية (عناقيد الغضب)، لا بين رواية (لورد جيم) ورواية رعاة بقر رخيصة. نجد في جميع الأفلام، باستثناء تلك الأفلام ذات الخلفيات الغريبة، وسواء كان هدف المخرج طبيعياً أو رومانسياً أو رمزياً أو أي شيء آخر، إن مناظر الشوارع والسلالم وقداحات السجائر، والمونتاج في غرفة الفتاة المراهقة يعالج مناظر تنبض بالواقع، ولن يتوقف العالم المادي عن إثبات وجوده في عالم السينما من خلال فن المونتاج.
0 التعليقات:
إرسال تعليق